أخبار لبنان

الطريق السريع بين بيجينغ وشينجيانغ ونفق بيروت-البقاع: دروس في التنمية والتكامل الاقتصادي

وارف قميحة* 

لطالما شكلت مشاريع البنية التحتية الكبرى عنصراً حاسماً في تحقيق التنمية الاقتصادية، إذ لا تقتصر أهميتها على تسهيل حركة التنقل، بل تمتد إلى دعم التجارة، تعزيز التكامل بين المناطق، وتحفيز الاستثمارات. في هذا السياق، يمثل الطريق السريع بين بيجينغ وشينجيانغ تجربة رائدة في الصين، حيث ساهم في ربط شرق البلاد المتقدم بمقاطعة شينجيانغ الغربية، مما أدى إلى تحقيق قفزة نوعية في الاقتصاد المحلي. وعلى المستوى اللبناني، يمثل نفق بيروت-البقاع مشروعاً استراتيجياً قد يُحدث تحولاً اقتصادياً إذا تم تنفيذه وفق رؤية متكاملة تشمل ليس تطوير البنية التحتية وحسب، بل أيضاً إنشاء حوض جاف ومناطق صناعية في البقاع، مما يعزز دوره بوابة اقتصادية للبنان نحو الدول العربية.

التجربة الصينية: الطريق السريع بين بيجينغ وشينجيانغ

يُعد الطريق السريع بين بيجينغ وشينجيانغ من أهم المشاريع التنموية في الصين، إذ يمتد لأكثر من 2,800 كيلومتر ويربط العاصمة بالمقاطعات الغربية التي كانت تعاني من عزلة اقتصادية مقارنة بالمناطق الساحلية. يمر الطريق عبر تضاريس صعبة تشمل صحراء غوبي وسلسلة جبال تيانشان، ويواجه تحديات مناخية مثل العواصف الرملية والثلوج، مما جعله إنجازاً هندسياً استثنائياً.

لم يكن الهدف من المشروع مجرد تسهيل التنقل، بل كان خطوة استراتيجية لدمج شينجيانغ في الاقتصاد الوطني وتعزيز التنمية في الغرب الصيني. فقد شهدت المدن الواقعة على طول الطريق انتعاشاً اقتصادياً ملحوظاً بفضل استثمارات جديدة في القطاعات الزراعية، الصناعية، والخدمات اللوجيستية. كما ساهم المشروع في دعم التجارة الإلكترونية، إذ سهل عمليات النقل والتوزيع، مما عزز ازدهار قطاع التجارة الرقمية في المنطقة.

على المستوى الاجتماعي، ساعد الطريق في تقليل الفجوة بين المناطق المتقدمة والأقل نمواً، إذ وفر فرص عمل جديدة وحسّن من مستويات المعيشة، خصوصاً  في المناطق التي تضم أقليات عرقية. أما على المستوى الجيوسياسي، فيُعدّ الطريق جزءاً من مبادرة “الحزام والطريق”، إذ يعزز الترابط الداخلي تمهيداً لربط الصين بأسواق آسيا الوسطى وأوروبا، مما يرسّخ دور شينجيانغ بوابة رئيسية للتجارة الخارجية.

لبنان: الحاجة إلى مشروع استراتيجي شامل في البقاع

على غرار التجربة الصينية، يواجه لبنان تحديات في ربط العاصمة بيروت بالمناطق الداخلية، وبخاصة البقاع، الذي يُعدّ مركزاً رئيسياً للإنتاج الزراعي والصناعي. يعاني طريق ضهر البيدر الحالي من ازدحام مزمن وتأثيرات الطقس القاسية، مما يؤدي إلى ارتفاع أكلاف النقل وإبطاء الحركة التجارية. يهدف مشروع نفق بيروت-البقاع إلى تقليل مدة التنقل من ساعتين إلى أقل من 30 دقيقة، مما يؤدي إلى نقلة نوعية في حركة الأفراد والبضائع، ويخفف الضغط على البنية التحتية الحالية.

لكن مجرد إنشاء النفق لا يكفي لتحقيق تحول اقتصادي شامل، بل يجب أن يكون جزءاً من خطة متكاملة تشمل تطوير البقاع ليصبح منطقة اقتصادية حيوية. في هذا السياق، يمكن للبنان الاستفادة من موقعه الجغرافي لإنشاء حوض جاف ومناطق صناعية في البقاع، مما يعزز دوره كمركز لوجستي يربط لبنان بالأسواق العربية.

أهمية إنشاء حوض جاف ومناطق صناعية في البقاع

1- تقليل الاعتماد على مرفأ بيروت.
يمثل مرفأ بيروت نقطة الارتكاز الرئيسية لحركة الاستيراد والتصدير في لبنان، لكن انفجار 2020 كشف عن هشاشة الاعتماد على مرفأ واحد فقط. إن إنشاء حوض جاف في البقاع يمكن أن يشكل بديلاً استراتيجياً لتخزين البضائع وإعادة توزيعها، مما يخفف الضغط عن مرفأ بيروت ويعزز مرونة الاقتصاد اللبناني.

2- تعزيز التجارة مع الدول العربية:

يتمتع البقاع بموقع استراتيجي قريب من الحدود السورية، مما يجعله بوابة طبيعية للأسواق العربية، بخاصة العراق والأردن والخليج. إن تطوير مناطق صناعية متخصصة يمكن أن يعزز الصناعات المحلية، ويدعم التصدير إلى هذه الأسواق، خصوصاً في القطاعات الزراعية، الغذائية، والصناعات التحويلية.

3- خلق فرص عمل وتحفيز الاقتصاد المحلي:

يساهم إنشاء حوض جاف ومناطق صناعية في خلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، مما يحسن مستوى المعيشة في البقاع ويقلل من الهجرة الداخلية نحو بيروت. كذلك يجذب استثمارات جديدة من القطاع الخاص، بخاصة في مجالات الخدمات اللوجستية والتخزين والتوزيع. الجدير ذكره  أن الوزير وائل أبو فاعور وقع عام 2019 مذكرة تفاهم مع الصين لإنشاء مناطق صناعية في لبنان، بهدف جذب الاستثمارات وتعزيز الإنتاج المحلي، بخاصة في البقاع، الذي يمتلك إمكانات صناعية واعدة. جاء هذا الاتفاق في إطار التعاون مع مبادرة “الحزام والطريق”، لكن مصيره ظل غير واضح وسط الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تلاحق لبنان.

4- تقليل أكلاف النقل وتعزيز التنافسية:

تواجه الشركات اللبنانية أكلاف نقل مرتفعة تؤثر على قدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية. إن تطوير البقاع كمركز لوجستي يقلل من أكلاف النقل والتخزين، مما يساهم في تعزيز تنافسية المنتجات اللبنانية في الأسواق الإقليمية.

دروس من الصين: كيف يمكن للبنان الاستفادة من التجربة الصينية؟

تُظهر التجربة الصينية أن تطوير البنية التحتية ليس مجرد مشروع هندسي، بل هو جزء من استراتيجية تنموية شاملة. لتحقيق النجاح، يجب أن تتوافر عوامل عدة:

1- إرادة سياسية قوية: في الصين، كان الطريق السريع بين بيجينغ وشينجيانغ جزءاً من خطة وطنية كبرى تهدف إلى تقليل الفجوات التنموية بين المناطق. في لبنان، يجب أن يكون نفق بيروت-البقاع وحوض البقاع الجاف جزءاً من رؤية اقتصادية واضحة تهدف إلى تنمية المناطق الداخلية.

2- تمويل مستدام: واجهت الصين تحديات مالية في مشاريع البنية التحتية، لكنها اعتمدت على الشراكات بين القطاعين العام والخاص. يمكن للبنان أن يستفيد من التمويل الصيني عبر مبادرة “الحزام والطريق”، أو من خلال شراكات مع مستثمرين محليين ودوليين.

3- تخطيط متكامل: لم يكن الطريق السريع بين بيجينغ وشينجيانغ مجرد طريق، بل كان محفزاً لإنشاء مراكز تجارية ومناطق صناعية. في لبنان، يجب أن يكون النفق جزءاً من خطة أوسع تشمل تطوير المناطق الصناعية والمرافق اللوجستية في البقاع.
4- تكامل إقليمي: ربط شينجيانغ بشبكة التجارة الآسيوية ساهم في تعزيز موقعها الاقتصادي. يمكن للبنان أن يستفيد من موقع البقاع لتعزيز الربط التجاري مع العراق والأردن والخليج، مما يجعله مركزاً تجارياً إقليمياً.

هل يملك لبنان الإرادة لتنفيذ مشروع بهذا الحجم؟

لا شك في أن تنفيذ نفق بيروت-البقاع وإنشاء حوض جاف ومناطق صناعية يمثلان فرصة ذهبية لإعادة توجيه الاقتصاد اللبناني نحو التنمية المستدامة. لكن النجاح يتطلب إرادة سياسية، تخطيطاً استراتيجياً، وتمويلاً مستداماً. في الصين، كان الطريق السريع بين بيجينغ وشينجيانغ جزءاً من رؤية تنموية كبرى ساهمت في تحول شينجيانغ إلى مركز اقتصادي حيوي. في لبنان، يمكن لمشروع متكامل في البقاع أن يلعب دوراً مشابهاً، مما يعزز الازدهار الاقتصادي ويجعل البلاد أكثر قدرة على الاستفادة من موقعها الجغرافي في التجارة الإقليمية. السؤال المطروح: هل يستطيع لبنان تبني رؤية جريئة لتنفيذ هذا المشروع وتحقيق تحول اقتصادي حقيقي؟

*رئيس جمعية طريق الحوار اللبناني – الصيني  ورئيس الرابطة العربية – الصينية للحوار والتواصل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *